فصل: تفسير الآية رقم (16):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (15):

{وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (15)}
{وَلَقَدْ كَانُواْ عاهدوا الله مِن قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ الادبار} هؤلاءهم الفريق المستأذنون وهم بنو حارثة عند الأكثرين، وقيل: هم بنو سلمة كانوا قد جبنوا يوم أحد ثم تابوا وعاهدوا يومئذ قبل يوم الخندق أن لا يفروا، وعن ابن عباس أنهم قوم عاهدوا كة ليلة العقبة أن يمنعوه صلى الله عليه وسلم مما يمنعون منه أنفسهم، وقيل: أناس غابوا عن وقعة بدر فحزنوا على ما فاتهم مما أعطى أهل بدر من الكرامة فقالوا: لئن أشهدنا الله تعالى قتالًا لنقاتلن و{عاهد} أجرى مجرى اليمين ولذلك تلقى بقوله تعالى: {لاَ يُوَلُّونَ الادبار} وجاء بصيغة الغيبة على المعنى ولو جاء كما لفظوا به لكان التركيب لا تولى الأدبار، وتولية الأدبار كناية عن الفرار والانهزام فإن الفار يولى دبره من فر منه {وَكَانَ عَهْدُ الله} عن الوفاء به مجازي عليه وذلك يوم القيامة، والتعبير بالماضي على ما في مجمع البيان لتحقق الوقوع، وقيل: أي كان عند الله تعالى مسؤولًا عن الوفاء به أو مسؤولًا مقتضى حتى يوفى به.

.تفسير الآية رقم (16):

{قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16)}
{قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الفرار إِن فَرَرْتُمْ مّنَ الموت أَوِ القتل} أي لن ينفعكم ذلك ويدفع عنكم ما أبرم في الأزل عليكم من موت أحدكم حتف أنفه أو قتله بسيف ونحوه فإن المقدر كائن لا محالة {وَإِذًا لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلًا} أي وإن نفعكم الفرار بأن دفع عنكم ما أبرم عليكم فمتعتم لم يكن ذلك التمتيع إلا تمتيعًا قليلًا أو زمانًا قليلًا.
وهذا من باب فرض المحال ولم يقل: ولو نفعكم إخراجًا للكلام مخرج المماشاة أو إذا نفعكم الفرار فمتعتم بالتأخير بأن كان ذلك معلقًا عند الله تعالى على الفرار مربوطًا به لم يكن التمتيع إلا قليلًا فإن أيام الحياة وإن طالت قصيرة، وعمر تأكله ذرات الدقائق وإن كثر قليل، وقال بعض الأجلة: المعنى لا ينفعكم نفعًا دائمًا أو تامًا في دفع الأمرين المذكورين الموت أو القتل بالكلية إذ لابد لكل شخص من موت حتف أنفه أو قتل في وقت معين لا لأنه سبق به القضاء لأنه تابع للمقضي فلا يكون باعثًا عليه بل لأنه مقتضى ترتب الأسباب والمسببات بحسب جرى العادة على مقتضى الحكمة فلا دلالة فيه على أن الفرار لا يغني شيئًا حتى يشكل بالنهي عن الإلقاء إلى التهلكة وبالأمر بالفرار عن المضار، وقوله تعالى: {وَإِذًا لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلًا} يدل على أن في الفرار نفعًا في الجملة إذًا لمعنى لا تمتعون على تقدير الفرار إلا متاعًا قليلًا، وفيه ما فيه فتأمل.
وذكر الزمخشري أن بعض المروانية مر على حائط مائل فأسرع فتليت له هذه الآية فقال: ذلك القليل نطلب وكأنه مال إلى الوجه الثاني أو إلى ما ذكره البعض في الآية؛ وجواب الشرط لإن محذوف لدلالة ما قبله عليه و{أَذِنَ} تقدمها هاهنا حرف عطف فيجوز فيها الأعمال والإهمال لكنه لم يقرأ هنا إلا بالإهمال. وقرئ بالأعمال في قوله تعالى في سورة [الإسراء: 76] {وَإِذًا لاَّ يَلْبَثُواْ خلافك} وقرئ {لا يُمَتَّعُونَ} بياء الغيبة.

.تفسير الآية رقم (17):

{قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (17)}
{قُلْ مَن ذَا الذي يَعْصِمُكُمْ مّنَ الله إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً} استفهام في معنى النفي أي لا أحد يمنعكم من الله عز وجل وقدره جل جلاله أن خيرًا وإن شرًا فجعلت الرحمة قرينة السوء في العصمة مع أنه لا عصمة إلا من السوء لما في العصمة من معنى المنع، وجوز أن يكون في الكلام تقدير والأصل قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوأ أو يصيبكم بسوء إن أراد بكم رحمة فاختصر نظير قوله:
ورأيت زوجك في الوغى ** متقلدًا سيفًا ورمحًا

فإنه أراد وحاملًا أو ومعتقلًا رمحًا، ويجري نحو التوجيه السابق في الآية، وجوز الطيبي أن يكون المعنى من الذي يعصمكم من الله أراد بكم سوأ أو من الذي يمنع رحمة الله منكم إن أراد بكم رحمة، وقرينة التقدير ما في {يَعْصِمُكُمْ} من معنى المنع، واختير الأول لسلامته عن حذف جملة بلا ضرورة.
{وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مّن دُونِ الله وَلِيًّا} ينفعهم {وَلاَ نَصِيرًا} يدفع الضرر عنهم، والمراد الأولى فيجدوه إلخ فهو كقوله:
ولا ترى الضب بها ينجحر

اه.
وهو معطوف على ما قبله بحسب المعنى فكأنه قيل: لا عاصم لهم ولا ولي ولا نصير أو الجملة حالية.

.تفسير الآية رقم (18):

{قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (18)}
{قَدْ يَعْلَمُ الله المعوقين مِنكُمْ} أي المثبطين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم {والقائلين لإخوانهم هَلُمَّ إِلَيْنَا} أي اقبلوا إلينا أو قربوا أنفسكم إلينا، قال ابن السائب: الآية في عبد الله بن أبي. ومعتب بن قشير. ومن رجع من المنافقين من الخندق إلى المدينة كانوا إذا جاءهم المنافق قالوا له: ويحك اجلس ولا تخرج ويكتبون إلى إخوانهم في العسكر أن ائتونا فإنا ننتظركم، وقال قتادة: هي في المنافقين كانوا يقولون لإخوانهم من ساكني المدينة من أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما محمد عليه الصلاة والسلام وأصحابه إلا أكلة رأس ولو كانوا لحمًا لالتهمهم أبو سفيان وأصحابه فخلوهم.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد قال: انصرف رجل من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب إلى شقيقه فوجد عنده شواء ونبيذًا فقال له: أنت هاهنا ورسول الله عليه الصلاة والسلام بين الرماح والسيوف فقال: هلم إلى فقد أحيط بك وبصاحبك والذي يحلف به لا يستقبلها محمد أبدًا فقال: كذبت والذي يحلف به لأخبرنه بأمرك فذهب ليخبره صلى الله عليه وسلم فوجد جبريل عليه السلام قد نزل بهذه الآية.
وقيل: هؤلاء اليهود كانوا يقولون لأهل المدينة: تعالوا إلينا وكونوا معنا، وكأن المراد من أهل المدينة المنافقون منهم المعلوم نفاقهم عند اليهود؛ و{قَدْ} للتحقيق أو للتقليل وهو باعتبار المتعلق، و{مّنكُمْ} بيان للمعوقين لأصلته كما أشير إليه، والمراد بالأخوة التشارك في الصفة وهو النفاق على القول الأول، والكفر بالنبي صلى الله عليه وسلم على القول الأخير، والصحبة والجوار وسكنى المدينة على القول الثاني وكذا على القول الثالث فإن ذلك يجامع الأخوة في النسب، وظاهر صيغة الجمع يقتضي أن الآية لم تنزل في ذينك الشقيقين وحدهما فلعلها نزلت فيهما وفي المنافقين القائلين ذلك والأنصار المخلصين المقول لهم، وجواز كونها نزلت في جماعة من الأخوان في النسب مجرد احتمال وإن كان له مستند سمعي فلتحمل الأخوة عليه على الآخوة في النسب ولا ضير، والقول بجميع الأقوال الأربعة المذكورة وحمل الأخوة على الأخوة في الدين والأخوة في الصحبة والجوار والأخوة في النسب لا يخفى حاله، {وهلم} عند أهل الحجاز يسوي فيه بين الواحد والجماعة، وأما عند تميم فيقال: هلم يا رجل وهلموا يا رجال، وهو عند بعض الأئمة صوت سمي به الفعل، واشتهر أنه يكون متعديًا كلهم شهداءكم عنى أحضروا أو قربوا ولازمًا كهلم إلينا بناء على تفسير بأقبلوا إلينا؛ وأما على تفسيره بقربوا أنفسكم إلينا فالظاهر أنه متعد حذف مفعوله، وجوز كونه لازمًا وهذا تفسير لحاصل المعنى.
وفي البحر أن الذي عليه النحويون أن هلم ليس صوتًا وإنما هو مركبك اختلف في أصل تركيبه فقيل: مركب من ها التي للتنبيه والميم عنى اقصد وأقيل وهو مذهب البصريين، وقيل: من هل وأم، والكلام على المختار من ذلك مبسوط في محله.
{إِلَيْنَا وَلاَ يَأْتُونَ البأس} أي الحرب والقتال وأصل معناه الشدة {إِلاَّ قَلِيلًا} أي إتيانًا أو زمانًا قليلا فقد كانوا لا يأتون العسكر إلا أن لا يجدوا بدًا من إتيانه فيأتون ليرى الناس وجوههم فإذا غفلوا عنهم عادوا إلى بيوتهم، ويجوز أن يكون صفة مفعول مقدر كما كان صفة المصدر أو الزمان أي إلا بأسًا قليلًا على أنهم يعتذرون في البأس الكثير ولا يخرجون إلا في القليل، وإتيان البأس على هذه الأوجه على ظاهره، ويجوز أن يكون كناية عن القتال، والمعنى ولا يقاتلون إلا قتالًا قليلًا كقوله تعالى: {وَمَا قَاتَلُواْ إِلاَّ قَلِيلًا} [الأحزاب: 20] وقلته إما لقصر زمانه وإما لقلة غنائه، وأيًا ما كان فالجملة حال من {القائلين} وقيل: يجوز أيضًا أن تكون عطف بيان على {بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ} وهو كما ترى، وقيل: هي من مقول القول وضمير الجمع لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أي القائلين ذلك والقائلين لا يأتي أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حرب الأحزاب ولا يقاومونهم إلا قليلًا، وهذا القول خلاف المتبادر وكأنه ذهب إليه من قال إن الآية في اليهود.

.تفسير الآية رقم (19):

{أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (19)}
{أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ} أي بخلاء عليكم بالنفقة والنصرة على ما روى عن مجاهد. وقتادة، وقيل: بأنفسهم، وقيل: بالغنيمة عند القسم، وقيل: بكل ما فيه منفعة لكم وصوب هذا أبو حيان، وذهب الزمخشري إلى أن المعنى أضناء بكم يترفرفون عليكم كما يفعل الرجل بالذاب عنه المناضل دونه عند الخوف وذلك لأنهم يخافون على أنفسهم لو غلب النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين حيث لم يكن لهم من يمنع الأحزاب عنهم ولا من يحمى حوزتهم سواهم، وقيل: كانوا يفعلون ذلك رياء، والأكثرون ذهبوا إلى ما سمعت قبل وعدل إليه مختصر وكشافه أيضًا وذلك على ما قيل لأن ما ذهب إليه معنى ما في التفريع بعد فيحتاج إلى جعله تفسيرًا، ورجحه بعض الأجلة على ما ذهب إليه الأكثر فقال: إنما اختاره ليطابق معنى ويقابل قوله تعالى بعد: {أَشِحَّةً عَلَى الخير} ولأن الاستعمال يقتضيه فإن الشح على الشيء هو أن يراد بقاؤه كما في الصحاح وأشار إليه بقوله: أضناء بكم، وما ذكره غيره لا يساعده الاستعمال انتهى.
قال الخفاجي: إن سلم ما ذكر من الاستعمال كان متعينًا وإلا فلكل وجهة كما لا يخفى على العارف بأساليب الكلام، و{أَشِحَّةً} جميع شحيح على غير القياس إذ قياس فعيل الوصف المضعف عينه ولأمه أن يجمع على افعلاء كضنين وإضناء وخليل وإخلاء فالقياس أشحاء وهو مسموع أيضًا، ونصبه عند الزجاج. وأبي البقاء على الحال من فاعل {يَأْتُونَ} على معنى تركوا الاتيان أشحة، وقال الفراء: على الذم، وقيل: على الحال من ضمير {هَلُمَّ إِلَيْنَا} أو من ضمير يعوقون مضمرًا، ونقل أولهما عن الطبري وهو كما ترى، وقيل: من {المعوقين} أو من القائلين، وردًا بأن فيهما الفصل بين أبعاض الصلة، وتعقب بأن الفاصل من متعلقات الصلة وإنما يظهر الرد على كونه حالًا من {المعوقين} لأنه قد عطف على الموصول قبل تمام صلته.
وقرأ ابن أبي عبلة {أَشِحَّةً} بالرفع على إضمار مبتدأ أي هم أشحة {فَإِذَا جَاء الخوف} من العدو وتوقع أن يستأصل أهل المدينة {رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدورُ أَعْيُنُهُمْ} أي أحداقهم أو بأحداقهم على أن الباء للتعدية فيكون المعنى تدير أعينهم أحداقهم، والجملة في موضع الحال أي دائرة أعينهم من شدة الخوف.
{كالذى يغشى عَلَيْهِ مِنَ الموت} صفة لمصدر {يُنظَرُونَ} أو حال من فاعله أو لمصدر {تَدورُ} أو حال من {أَعْيُنَهُمْ} أي ينظرون نظرًا كائنًا كنظر المغشي عليه من معالجة سكرات الموت حذرًا وخوفًا ولو إذا بك أو ينظرون كائنين كالذي إلخ أو تدور أعينهم دورانًا كائنًا كدوران عين الذي إلخ أو تدور أعينهم كائنة كعين الذي إلخ، وقيل: معنى الآية إذا جاء الخوف من القتال وظهر المسلمون على أعدائهم رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم في رؤيتهم وتجول وتضطرب رجاء أن يلوح لهم مضرب لأنهم يحضرون على نية شر لا على نية خير، والقول الأول هو الظاهر {فَإِذَا ذَهَبَ الخوف سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} أي أذوكم بالكلام وخاصموكم بألسنة سلطة ذربة قاله الفراء، وعن قتادة بسطوا ألسنتهم فيكم وقت قسمة الغنيمة يقولون: أعطونا أعطونا فلستم بأحق بهامنا، وقال يزيد بن رومان: بسطوا ألسنتهم في أذاكم وسبكم وتنقيص ما أنتم عليه من الدين.
وقال بعض الأجلة: أصل السلق بسط العضو ومده للقهر سواء كان يدًا أو لسانًا فسلق اللسان بإعلان الطعن والذم وفسر السلق هنا بالضرب مجازًا كما قيل للذم طعن، والحامل عليه توصيف الألسنة بحداد، وجوز أن يشبه اللسان بالسيف ونحوه على طريق الاستعارة المكنية ويثبت له السلق عنى الضرب تخييلًا، وسأل نافع بن الأزرق ابن عباس رضي الله تعالى عنه عن السلق في الآية فقال: الطعن باللسان قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ فقال: نعم أما سمعت قول الأعشى:
فيهم الخصب والسماحة والنجدة ** فيهم والخاطب المسلاق

وفسره الزجاج بالمخاطبة الشديدة قال: معنى سلقوكم خاطبوكم أشد مخاطبة وأبلغها في الغنيمة يقال: خطيب مسلاق وسلاق إذا كان بليغًا في خطبته، واعتبر بعضهم في السلق رفع الصوت وعلى ذلك جاء قوله صلى الله عليه وسلم: «ليس منا من سلق أو حلق» قال في النهاية أي رفع صوته عند المصيبة، وقيل: أن تصك المرأة وجهها وتمرشه، والأول أصح، وزعم بعضهم أن المعنى في الآية بسطوا ألسنتهم في مخادعتكم بما يرضيكم من القول على جهة المصانعة والمجاملة، ولا يخفى ما فيه، وقرأ ابن أبي عبلة {صلقوكم} بالصاد.
{حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الخير} أي بخلاء حريصين على مال الغنائم على ما روى عن قتادة، وقيل: على ما لهم الذين ينفقونه، وقال الجبائي: أي بخلاء بأن يتكلموا بكلام فيه خير، وذهب أبو حيان إلى عموم الخير. ونصب {أَشِحَّةً} على الحال من فاعل {سَلَقُوكُم} أو على الذم، ويؤيده قراءة ابن أبي عبلة {أَشِحَّةً} بالرفع لأنه عليه خبر مبتدأ محذوف أي هم {أَشِحَّةً} والجملة مستأنفة لا حالية كما هو كذلك على الذم، وغاير بعضهم بين الشح هنا والشح فيما مر بأن ما هنا مقيد بالخير المراد به مال الغنيمة وما مر مقيد عاونة المؤمنين ونصرتهم أو بالانفاق في سبيل الله تعالى فلا يتكرر هذا مع ما سبق، والزمخشري لما ذهب إلى ما ذهب هناك، قال هنا: فإذا ذهب الخوف وحيزت الغنائم ووقعت القسمة نقلوا ذلك الشح وتلك الحالة الأولى واجترؤا عليكم وضربوكم بألسنتهم إلخ، وقد سمعت ما قال بعض الأجلة في ذلك.
ويمكن أن يقال في الفرق بين هذا وما سبق: إن المراد مما سبق ذمهم بالبخل بكل ما فيه منفعة أو بنوع منه على المؤمنين ومن هذا ذمهم بالحرص على المال أو ما فيه منفعة مطلقًا من غير نظر إلى كون ذلك على المؤمنين أو غيرهم وهو أبلغ في ذمهم من الأول {أولئك} الموصوفون بما ذكر من صفات السوء {لَمْ يُؤْمِنُواْ} بالإخلاص فإنهم المنافقون الذين أظهروا الايمان وأبطنوا في قلوبهم الكفر {فَأَحْبَطَ الله أعمالهم} أي أظهر بطلانها لأنها باطلة منذ عملت إذ صحتها مشروط بالايمان وبالإخلاص وهم مبطنون الكفر وفي البحر أي لم يقبلها سبحانه فكانت كالمحبطة وعلى الوجهين المراد بالأعمال العبادات المأمور بها، وجوزأن يكون المراد بها ما عملوه نفاقًا وتصنعًا وإن لم يكن عبادة، والمعنى فأبطل عز وجل صنعهم ونفاقهم فلم يبق مستتبعًا لمنفعة دنيوية أصلًا.
وحمل بعضهم الأعمال على العبادات والإحباط على ظاهره بناء على ما روى عن ابن زيد عن أبيه قال نزلت الآية في رجل بدري نافق بعد بدر ووقع منه ما وقع فأحبط الله تعالى عمله في بدر وغيرها، وصيغة الجمع تبعد ذلك وكذا قوله تعالى: {لَمْ يُؤْمِنُواْ} فإن هذا كما هو ظاهر هذه الرواية قد آمن قبل، وأيضًا قوله عليه الصلاة والسلام: «لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» يأبى ذلك فالظاهر والله تعالى أعلم أن هذه الرواية غير صحيحة.
{وَكَانَ ذلك} أي الاحباط {عَلَى الله يَسِيرًا} أي هينًا لا يبالي به ولا يخاف سبحانه اعتراضًا عليه، وقيل: أي هينًا سهلًا عليه عز وجل، وتخيص يسره بالذكر مع أن كل شيء عليه تعالى يسير لبيان أن أعمالهم بالاحباط المذكور لكمال تعاضد الحكم المقتضية له وعدم مانع عنه بالكلية، وقيل: ذلك إشارة إلى حالهم من الشح ونحوه، والمعنى كان ذلك الحال عليه عز وجل هينًا لا يبالي به ولا يجعله سبحانه سببًا لخذلان المؤمنين وليس بذاك، والمقصود مما ذكر التهديد والتخويف.